top of page

 نور الدين محمود

تعريف به
نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر، كان جده آقسنقر قد وُلِّي حلب وغيرها من بلاد الشام، ونشأ أبوه عماد الدين بالعراق، وندبه الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين لولاية ديار الموصل والبلاد الشامية بعد قتل آقسنقر البرسقي وموت ابنه مسعود، فظهرت كفايته وبدت شهامته، واستتب له الأمر ففتح الرُّها والمعرة وكفر طاب وغيرها من الحصون الشامية، واستنقذها من أيدي الكفار، وحـاصر دمـشق مـرتين، فـلم يتيـسر لـه فتحـها، فلـما انقضى أجله رحمه الله قـام ابنه نور الدين مقامه في الملك. 

حياته
ولد نور الدين وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر شوال سنة 511هــ.

نشأ نور الدين في كفالة والده، و تعلَّم القرآن و الفروسية والرمي، وكان شهماً شجاعاً ذا همة عالية، وقَصْدٍ صالح، وحُرمة وافرة وديانة بينة. 

شجاعته
يقول الإمـام ابـن عسـاكر: (بلغـني أنـه فـي الحرب رابِطُ الجأش، ثابتَ القدم، شديد الانكماش، حسنَ الرَّمي بالسهام، صليبَ الضرب عند ضِيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرَة، ويحمي مُنهزِمَهُم عنـد الفـرّة، ويتـعرض بجـهده للشهـادة لما يرجو بها من كمال السعادة).
 
وقال ابن الأثير: (وأما شجاعته وحُسْنُ رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يُضرب المثل في ذلك، سمعت جمعاً كثيـراً مـن النـاس لا أُحصيـهم يـقولون: إنهـم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خُلق منه لا يتحرك و لا يتزلزل). 

وكـان نـور الـدين رحـمه الله، إذا حـضر الحـرب أخـذ قوسيـن وجعبتـين، وبـاشـر القـتال بنفسه. 

وعند حصن الأكراد عام 558هـ هاجم الصليبيون معسكر نور الدين رحمه الله على حين غفلة وهو في قلة من أصحابه؛ فانسحب بسرعة إلى حمص وأخذ ما يحتاجه من خِيام وتجهيزات عسكرية، وعاد فعسكر على بُحيرة (قدس) على بعد أربعة فراسخ فحسب من مكان الهجوم، يقول ابن الأثير: (فكان الناس لا يظنون أنه يقف دون حلب، فكان رحمه الله أشجع من ذلك وأقوى عزماً)، وعلى بحيرة (قدس) اجتمع إليه كل ناجٍ من المعركة فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تقيم ها هنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ونحن على هذه الحال؛ فوبخه وأسكته وقال: (إذا كان معي ألف فارس لا أبالي بأعدائي قلّوا أم كثروا، والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الإسلام و ثأري)، وأرسل إلى حلب يطلب مزيداً من الأموال و العدد.

وكان في نية الصليبيين الهجوم على حمص باعتبارها أقرب المواقع إليهم، فلما بلغهم مقام نور الدين رحمه الله قريباً منها قالوا: إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة ما يمنعنا. 

فتوحاته 
بعد أن تولى نور الدين رحمه الله المُلك، استنقذ الرُّها من ابن جوسلين، ولما استتب له الأمر خرج غازياً في أعمال تل باشر، فافتتح حصونًا كثيرة، وافتتح قلعة أفامية، وقلعة عزاز وتل باشر ودلوك ومرعش، وقلعة عينتاب ونهر الجوز وغير ذلك، وحصن البارة وقلعة الراوندان، وقلعة تل خالد وحصن كفر لاثا وحصن بسرفوت بجبل بني عليم، وغزا حصن إنب؛ فقصده الأبرنس متملك أنطاكية، وكان من أبطال العدو وشياطينهم، فرحل عنها ولَقِيَهم دونها وقتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيراً مع أمه بأنطاكية وتزوجت بأبرنس آخر، فخرج نور الدين رحمه الله في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الأبرنس الأول، وهو بيمنت، ووقع في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد، وحاصر دمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، ثم قصدها الثالثة فتمّ له الصلح مع ملكها معين الدين وصاهَرَهُ (تزوّج ابنته)، واجتمعت كلمتهما على العدو لما فأزره وسلّم أهلها إليه البلد؛ لغلاء الأسعار والخوف من استعلاء كلمة الكفار، فضبط أمورها، وحَصَّن سورها، وبنى بها المدارس والمساجد، وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها، ووسَّع أسواقها، وأدر الله على رعيته ببركته أرزاقها، ورفع عن أهلها الأثقال، ومنع ما كان يُؤخذ منهم من المغارم، كدار بطيخ وسوق البقل وضمان النهر والكيالة وسوق الغنم، وغير ذلك من المظالم، وأمر بترك ما كان يُؤخذ على الخمر من المكس، ونهى عن شربه وعاقب عليه بإقامة الحد والحبس، واستنقذ من العدو ثغر بانياس وغيره من المعاقل المنيعة، كالمنيطرة وغيرها بعد الأياس. 

إنجازاته 
أما إنجازاته الاجتماعية فقد لخصها بن عساكر في قوله: وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهّد ذوي الحاجة من أُولي التعفف بالصِّلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلى ساكني الحرمين ومُجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات، لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخراج العين التي بأُحد وكانت قد دَفَنَتَها السيول، ودُعِي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمّر الربط والخانقاهات والبيمارستانات، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثـيراً مـن ذي السبـيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل.

وفاته
توفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة 569هــ، مكث منها في الملك ثمانية وعشرين عاماً. 

 

bottom of page