top of page

قصة توبة قاتل التسعة وتسعين نفسًا

وقد قص النبي  قصة رجل أسرف على نفسه في المعاصي والذُُّنوب، ثم تاب وأناب فقبل الله توبته، والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله  قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة، فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة، قال قتادة: فقال الحسن: ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره).

هذه قصة رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والمعاصي، حيثُ قتل مائة نفس، أي أنه ارتكب إحدى الكبائر، وهي قتل النفس، ورُغم كل ما فعله إلا أنه كان لا يزال في قلبه بقية من خير، وشُعاع من أملٍ، يحثُّه للسعي لطلب عفو الله ومغفرته، فخرج من بيته باحثاً عن عالم يفتيه، ويَفتح له أبواب الأمل في قبول الله تعالى لتوبته، ومن شدة حرصه وتحريه لم يسأل عن أي عالم، بل سأل عن أعلم أهل الأرض ليكون على يقين من أمره.

دلَّهُ الناس على رجلٍ راهبٍ، ويُعرف الرهبان كثرة تبتُّلهم وعبادتهم وقلة العلم، فأخبره بما فعل، فاستعظم الراهب ذنبه، ويَأَّسَهُ من رحمة الله، فازداد الرجل طُغيانًا بعد أن أُُخْبِر أن التوبة محجوبة عنه، فقتل الراهب ليتم به المائة.


ومع ذلك لم ييأس ولم يقتنع بما قال الراهب، فسأل مرة أخرى عن أعلم أهل الأرض، فددلَّوه على رجل عالمٍ، فسأله ما إذا كانت له توبة بعد كل الذي فعله، فقال له العالم مستنكرًا قوله: ومن يحول بينك وبين التوبة ؟!، وأخبره أنَّ باب التوبة مفتوح، وأنَّ الله عز وجل رحمتُه وسعت كل شيء، ثم دلَّه على الطريق الموصل إليها، وهو أن يغير طريقة حياته، ويفارق البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها، ويترك رفقة السوء التي تعينه على الفساد، وتُزين له الشر، ويهاجر إلى أرض أخرى فيها أقوام صالحون يعبدون الله تعالى، وكان الرجل صادقًا في طلب التوبة، فلم يتردد لحظة، وخرج قاصدًا تلك الأرض، ولما وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله، ولشدة رغبته في التوبة نأى بصدره جهة الأرض الطيبة، وهو في النزع الأخير، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كل منهم يريد أن يقبض روحه، فقالت ملائكة العذاب: إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيراً أبدا، وقالت ملائكة الرحمة: إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلاً على الله، فأرسل الله لهم ملكًا في صورة إنسان، وأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين، الأرض التي جاء منها، والأرض التي هاجر إليها، فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب، وأرض الشر والفساد أن تتباعد، فوجدوه أقرب إلى أرض الصالحين بشبر، فتولت أمره ملائكة الرحمة، وغفر الله له ذنوبه كلها.

هذه القصة تُعطي الأمل لكل عاصٍ، وتُبين سعة رحمة الله، وقبوله لتوبة التائبين، مهما عظمت ذنوبهم وكبرت خطاياهم كما قال الله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }(سورة الزمر، 53)، ومن ظن أن ذنباً أذنبه لن يغفر الله له به، فقد ظن بربه ظنَّ السوء، وكما أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، فكذلك القنوط من رحمة الله، قال عز وجل: { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } (سورة يوسف،87).

ولكن لا بد من صدق النية في طلب التوبة، وبذل كل التي تؤدي للتوبة، وهو ما فعله هذا الرجل، حيث سأل وبحث ولم ييأس، وضحى بسكنه وقريته وأصحابه في مقابل توبته.

وهذه القصة تبين كذلك أن استعظام الذنب هو أول طريق التوبة، وكلما صَغُرَ الذنب في عين العبد كلما عَظُمَ عند الله، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصـل جـبل يخـاف أن يقـع عـليه، وإن الفـاجر يـرى ذنـوبه كـذباب وقـع عـلى أنفـه قـال بـه هـكذا فـطار، وهـذا الـرجـل لـولا أنـه كان معـظـماً لـذنـبه، خـائـفاً مـن معـصيـته لما كـان منـه ما كـان.

والقـصة أيضــاً تُوضِّـح للـدُّعاة ضـرورة عـدم حُكـمهم عـلى إنسـان فيـما يخـص ما فـي قلـبه بيـنه وبيـن ربـه، وعـدم مـباشـرتهم بمـنع إنـسان من التـوبة حـتى لو كَثُرت ذنـوبه وخطـاياه، فربمـا هنــاك بـذرة خيـر في نفـسه تحتـاج إلى يُبـينها، بل يجـب علـيهم تـقديم البـدائل والأعـمال الـتي تُقـوي الإيمـان فـي قلـوب التائبين، وتجعلهم يثبتون على الطريق.

bottom of page