top of page

أسد بن الفرات

تعريف به
أبو عبد الله أسد بن الفرات بن سنان الأمير الكبير، والفقيه البارع، والمحدِّث الثقة، وأمير المجاهدين.

حياته
وُلِدَ أسد بن الفرات رحمه الله سنة 142هـ - 759م بحَرَّان بالشام ، وانتقل إلى بلاد المغرب مع أبيه الفرات بن سنان سنة 144هـ - 761م، والذي كان قائدًا للمجاهدين، الذين خرجوا لنشر الإسلام في بلاد المغرب، واستقرَّ مع أبيه بـ القيروان، ونشأ أسد بن الفرات منذ صِغَره على حُبِّ العلم، وحِفْظِ كتاب الله حتى أتمَّه في مرحلة الصِّبا، وأصبح هو نفسه مُعلِّمًا للقرآن وهو دون الثانية عشر.

علمه
بعدما أتمَّ أسد حفظ كتاب الله عز وجل، بدأ في تحصيل العلوم الشرعية حتى برع في الفقه، وكان مُحبًّا للنظر والمسائل المتفرِّعة، وأعمال العقل؛ فمال ناحية مذهب أبي حنيفة، وظلَّ هكذا حتى التقى علي بن زياد، الذي يُعتبر أوَّلَ مَنْ أدخل مذهب الإمام مالك بن أنس بالمغرب، فسَمِعَ منه أسد كتاب الموطأ وتلقَّى منه أصول مذهب مالك، وبعدها قرَّر أسد أن ينتقل إلى المشرق في رحلة علمية طويلة ابتداءً من سنة 172هـ - 788م وهو في ريعان الشباب.

دخل أسد بن الفرات المدينة النبوية لسماع الموطأ من الإمام مالك مباشرة، ثم ارتحل إلى العراق، بعدما انتهى من سماع الموطأ.

وبالعراق التقى أسد مع كبار تلاميذ أبي حنيفة؛ أمثال: محمد بن الحسن وكان من كبار رُواة الحديث، والقاضي أبي يوسف أخَصَ تلاميذ أبي حنيفة وأفقههم، فتعلَّم أسد أولاً المذهب الحنفي، وأكثر من سماعِ الثِّقات في الحديث، واستفاد أسد من محمد بن الحسن استفادةً كبرى، وكَتَبَ عنه الكثير مــن مسـائـل المـذهب الحـنفـي المشهور.

واستمرَّ أسد في رحلته إلى العراق جامعًا بين طلب الحديث والفقه إلى سنة 179هـ - 795م، وهي السنة التي توفي فيها الإمام مالك، فارتجَّت العراق لموته، وأقبل الناس من كل مكان للسماع من تلاميذ مالك، وعندها نَدِمَ أسد على أنه لم يبقَ بجوار مالك، وقال لنفسه: (إن كان فاتني لزوم مالك فلا يفوتني لزوم أصحابه).

ثم ارتحل أسد بن الفرات إلى مصر، وكان بها أخصُّ تلاميذ مالك وأكثرهم علمًا وورعًا أمثال ابن وهب وابن القاسم، فدخل أسد أولاً على ابن وهب، وعرض عليه كُتُبه التي كتبها على مذهب أبي حنيفة، وطلب منه أن يُجيب عليها على مذهب مالك، فتورَّع ابن وهب عن ذلك، فدخل أسد على ابن القاسم فأجابه على هذه المسائل، وتفرَّغ له ابن القاسم ولقَّنه المذهب كلَّه بأصوله وفروعه، ودوَّن هذه المسائل كلها في الكتاب الشهير باسم (الأسدية) وحرَّرها وضبطها، حتى صارت المرجع الأول للفقه المالكي ببلاد المغرب وقتها، وأخيرًا عاد أسد بن الفرات إلى القيروان سنة (181هـ - 797م) بعد رحلة علمية شاقة وحافلة بالفوائد؛ حيث تنقَّل فيها بين المدينة ومكة وبغداد والكوفة والفسطاط في طلب العلم؛ حتى صار من كبار علماء المغرب، وإمامًا من أئمة المسلمين الذين بلغوا درجة الاجتهاد، فلا يُفتي إلَّا بعد النظر والترجيح، ولا يتقيَّد بمذهبٍ معيَّنٍ. 

جهاده
أمير المجاهدين

لم يكن أسد بن الفرات من هذا النوع السلبي من العلماء الذين يقبعون خلف كُتبهم ومصنفاتهم ومحابرهم، ولا يتحرَّكُون بعلمهم بين الناس؛ بل كان من العلماء العاملين، وأيضًا من كِبار المجاهدين في سبيل الله عز وجل، فلقد ورث حُبَّ الجهاد عن أبيه، الذي كان أمير المجاهدين في حَرَّان، والذي حمل ولده الصغير (أسدًا) وخرج به مجاهدًا في سبيل الله، فشبَّ عالما وأيضًا جُنديًّا جريئًا، وبحَّارًا مغامرًا؛ حتى إنه في سنِّ الشباب -وقبل أن يقوم برحلته العلمية المشهورة- اشترك في العديد من المعارك البحرية في مياه البحر المتوسط، ويقول العلامّة ابن خلدون: إن أسد بن الفرات هو الذي افتتح جزيرة (قوْصَرة)، وهي جزيرة صغيرة تقع شرقي تونس الآن، حيث كانت (تونس) واقعة تحت حكم دولة الأغالبة، التي استقلَّت بحكم البلاد منذ سنة 184هـ - 800م، ولكنها كانت تابعة للدولة العباسية، وكانت هذه الدولة في بداياتها معنية بأمر الجهاد ونشر الإسلام، فاتجه وُلاة هذه الدولة بأبصارهم ناحية الجزر الكبرى الواقعة في منتصف البحر المتوسط؛ مثل: جزيرة صقلية، وكورسيكـا، وسَرْدَانِـيَة، وغيرها؛ ولكن التركيز الأكبر كان على جزيرة صقلية. 

فتح جزيرة صقلية
تُعتبر جزيرة صقلية أكبر جُزر البحر المتوسط مساحةً، وأغناها من حيث الموارد الإقتصادية، وأفضلها موقعًا، ولقد انتبه المسلمون لأهمية هذه الجزيرة مبكِّرًا منذ عهد الصحابة؛ حيث حاولوا فتحها في عهد عبد الله بن سعد –رضي الله عنه-، ثم معاوية بن حديج –رضي الله عنه-، ثم عقبة بن نافع، ثم عطاء بن رافع، وكان آخرهم عبد الرحمن بن حبيب وذلك سنة 135هـ - 753م، ثم وقعت الفتن الداخلية ببلاد المغرب بين العرب والبربر، وانشغل المسلمون عن جهاد العدوِّ، الذي انتهز الفرصة وأغار على سواحل المغرب عند منطقة إفريقية؛ مما جعل المسلمون يتوحَّدُون ويتهيَّؤُن للردِّ على هذا العدوان البيزنطي.

وفي هذه الفترة وقعت العديد من الاضطرابات بجزيرة صقلية، والتي كانت تتبع الدولة البيزنطية؛ حيث وقع نزاع على حُكم الجزيرة بين رجُلين أحدهما اسمه يوفيميوس (وتُسَمِّيه المراجع العربية فيمي)، والآخر اسمه بلاتريوس (وتُسَمِّيه المراجع العربية بلاطه)، وانتصر بلاطه على فيمي الذي فرَّ هاربًا إلى إفريقيا، واستغاث بزيادة الله ابن الأغلب حاكم إفريقيا، وطلب منه العون في استعادة حكمه على الجزيرة، فرأى زيادة الله فيها فرصة سانحة لفتح الجزيرة.

واستنفر زيادة الله الناس للجهاد وفتحِ صقلية، فهرعوا لتلبية النداء، وجُمِعَت السفن من مختلف السواحل، وبحث ابن الأغلب عمَّن يجعله أميرًا لتلك الحملة البحرية الكبيرة فلم يجد خيرًا ولا أفضل من البطل المقدام أسد بن الفرات؛ وذلك على الرغم من كبَر سنه في هذه الفترة 212هـ - 827م؛ أي كان عُمره سبعين عامًا، وكان هذا الاختيار دليلاً على فورة المشاعر الإسلامية في هذه الفترة، والأثر الكبير لعلماء الدين على الشعب المسلم، وكان أسد بن الفرات يُبدي رغبتَهُ في هذه الغزوة كواحد من المسلمين؛ لأنه كان مُحبًّا للجهاد، عالما بمعاني ومقتضيات آيات النفرة في سبيل الله ودور العلماء في ذلك، وأيضًا كان يكره الشُّهرة والرياء.

ولكن ابن الأغلب أصرَّ على أن يتولَّى أسد بن الفرات قيادة الحملة العسكرية -وأيضًا- يكون قاضيًا للحملة؛ أي جمع له القيادة الميدانية والروحية؛ لعلمه بمكانة أسد بن الفرات، وأثَرِهِ في الناس وحبِّهم له.

الجهاد حتى الممات
خرج أسد بن الفرات رحمه الله من القيروان في حملة عسكرية كبيرة قوامُها عشرة آلاف من المجاهدين المشُاة، وسبعمائة فارس بخيولهم في أكثر من مائة سفينة كبيرة وصغيرة، خرجت من ميناء سوسة على البحر المتوسط وسط جمـعٍ عظيـمٍ من أهل البلد، الذين خرجوا لتوديع الحملة المجاهدة.

وتحرَّك الأسطول الإسلامي يوم السبت 15 ربيع الأول سنة 212هـ - 827م مُتجهًا إلى جنوبي جزيرة صقلية، وبالفعل وصلت الأساطيل المسلمة إلى بلدة (مازر) في طرف الجزيرة الغربي بعد ثلاثة أيام من الإبحار؛ أي يوم الثلاثاء، ونَفَّذَ أسد بن الفرات على رأس جنده إلى شرقي الجزيرة، وهناك وجد قوَّة رومية بقيادة الثائر فيمي، الذي طلب مساعدة ابن الأغلب لاستعادة حُكمه على الجزيرة، وعرض فيمى على أسد بن الفرات الاشتراك معه في القتال ضدَّ أهل صقلية، ولكنَّ القائد المسلم -العالم بأحكام شريعته، المتوكل على الله عز وجل وحده- رفَضَ الاستعانة بالمشركين تأسِّيًا بالنبي ، الذي رفض الاستعانة باليهود يوم أُحد.

واستولَّى أسد على العديد من القلاع أثناء سيره؛ مثل: قلعة بلوط والدب والطواويس، حتى وصل إلى أرض المعركة عند سهل بلاطه نسبة إلى حاكم صقلية، وعندها أقبل بلاطه في جيشٍ عدَّتُه مائة ألف مقاتل؛ أي عشرة أضعاف الجيش المسلم، وعندها قام أسد بن الفرات في الناس خطيبًا؛ فَذَكَّرهم بالجنة ووعود الله عز وجل لهم بالنصر والغلبة، وهو يحمل اللواء في يده، ثم أخذ يتلو آيات من القرآن الكريم، ثم اندفع للقتال والتحم مع الجيش الصقلي الجرَّار، واندفع المسلمون من ورائه، ودارت معركة طاحنة لا يُسمع منها سوى صوت قعقعة السيوف وصهيل الخيول، والتكبير الذي يخترق عنان السماء، والأسد العجوز أسد بن الفرات -الذي جاوز السبعين- يُقاتل قِتال الأبطال الشجعان؛ حتى إنَّ الدماء كانت تجري على درعه ورمحه من شدَّة القتال وكثرة مَنْ قتلهم بنفسه وهو يقرأ القرآن ويُحَمِّس الناس، وتمادت عزائم المسلمين حتى هزموا الجيش الصقلي شرَّ هزيمة، وفرَّ بلاطه من أرض المعركة، وانسحب إلى مدينة قَصْريَانِه، ثم غلبه الخوف من لقاء المسلمين ففرَّ إلى إيطاليا، وهناك قُتل على يد بني دينه؛ بسبب جُبنه وإحجامه عن قتال المسلمين.

وفاته
بعد هذا الانتصار الحاسم واصل أسد بن الفرات زحفه حتى وصل إلى مدينة سرقوسة ومدينة بَلَرْم؛ فشدَّد عليها الحصار، وجاءته الإمدادات من إفريقيا، واستطاع أسد بن الفرات أن يحرق الأسطول البيزنطي، الذي جاء لنجدة بَلَـرْم، وأوشـكت المدينة على السقوط، لكن حدث ما لم يَكُن في الحسبان؛ حيث حلَّ بالمسلمين وباءٌ شديد، أغلب الظنِّ أنه الكوليرا أو الجدري؛ فهلك بسببه عدد كبير من المسلمـين فـي مُقَدِّمتـهم القـائد المقدام أسـد بـن الفرات، فـلاقى المـوت مـرابطًا مجــاهدًا بعـيدًا عـن أهـله وبيــته وحلقـات دروس العـلم، مُجافيًا لفراشه وداره، مُؤْثِرًا مرضاة ربه ونصرة دينه، وذلك في شعبان سنة 213هـ - 828م، ودُفن بمدينة قصريانه.

bottom of page